التقيت محمد عفيفي مطر أو المطراوي - كما كنا ندلله - في الإمارات حيث كنت أعمل في جريدة الخليج أيام عروبتها، عندما ذهب ليتسلم جائزة العويس التي فاز بها وهناك أجريت معه حوارا طويلا حول قصيدة واحدة هي "هلاوس ليلة الظمأ" التي رصد فيها أيام سجنه في عهد مبارك، ولما طال الحوار قال لي: كل هذه الأسئلة حول قصيدة واحدة؟
فقلت له: أتذكر درسك الأول لي، عندما جئت إليك في بيتك بالرملة لأجري معك حوارا للأهرام، وقد التحقت بالعمل فيها أواسط الثمانينات من القرن الماضي، فرفضتَ إجراء الحوار، لأن الأسئلة لم تكن من قلب النصوص٠ وقلت لي وقتها: لو كنت صحافيا عاديا لقبلت الحوار، ولكن لأنك ابني فلا أقبل لك أن تكون مثل الآخرين الذين يطرحون أسئلة عامة مكررة وكأنهم يستنسخون الغباء أو يستسهلون المهنة
وقلت لي يومها: عد إلى شعري وقصائدي، واغزل من لحمها سؤالك. فعدت وتعلمت الدرس الذي شكل وجداني ومهنيتي وصنع لي مسيرتي الصحفية
فقال لي: ولكنك اليوم تُغرق الحوار في التفاصيل.
فقلت له أرغب في الاكتمال، فإما الكمال والا فلا، ثم قلت له بانجليزيتي المكسرة perfect or never فضحك وقال: "هتبقى never إن شاء الله" وغرقنا معا في ضحك طويل ثم قال لي: الاكتمال فخ وبوابة الكسالى للهروب فانتبه.
وأردف قائلا: النقص ملح الكتابة فلو اكتملت القصائد لماتت بين أيدي القراء الذين يحق لهم أن يأتوا القصائد كما يحبون، والحوارات التي تنغلق بوهم الاكتمال لا تغري باستمرار الحوارات
وعارضته كثيرا فضحك وقال لن تنشر هذا الحوار ولن يرضى بنشره أحد
وبالفعل رفض الكثيرون نشره قبل ان أسلمه، ومنهم من تعلل بأنه حوار على قصيدة واحدة والغريب ان الرفض جاء قبل قراءة الحوار
صدقت نبوءة عفيفي
ولكني ظللت مصرا على مقولة الاكتمال، ربما فقط لأشعر أني أشاكسه كما كنت أفعل دائما على مقهى زهرة البستان حيث كنا نلتقي كل ثلاثاء
الأكثر قسوة من غيابه أن هذا الحوار
ضاع مني ضمن ما ضاع في بلاد الرمل
التي تعيش وهم اكتمالها المغلق على فراغ
محمد عفيفي مطر
***
كانت علاقتي بالشعر ولا تزال طالعة من معطفه كما طلع الأدباء الروس من معطف جوجول، ولذلك كان ديوانه يتحدث الطمي أمام عيني دائما في حلي وترحالي في مصر أو في بلاد الرمل - التي يسمونها بلاد الخليج - وقد جربت رملها وخواءها فانفجرت شعرا وكتبت عن طين مصر وطين رملة الأنجب، مواصلا طريق الأب الروحي في الإنصات إلى روح الخصوبة في الطين، بل رفعت الأمر إلى مستوى الخلق عندما كتبت:
يا أبناء الرمل وشيعته
تفكروا قليلا
لقد اختار الله الطمي خليفة
وعلمه الأسماء كلها.
لكنني لم أرض برمل عفيفي الذي كان رمزيا، ولم أر النهر في الصحراء، كما رأى أو تخيل في أحلامه الشعرية، فقد رأيت وعاينت الملح وهو يسرق ماء النهر ويدفعه للموت أو الترمل.
كنت أكتب قصيدة النثر وعفيفي يعارض هذا النمط من الشعر، ولذلك أخفيت عنه ما أكتب وكان يقول لمها شهبة: أنا أعرف أن محمد يكتب الشعر، 'وارى ذلك في عناوين موضوعاته وحواراته، وهو الذي نبهني أنني كنت كمن يهرّب الشعر في الصحف الأجيرة. وكان يغيظه هذا مني، وكنت أرى أن حواراتي التي تبدأ بمقدمات أقرب للشعر تكفيني، ومنها حواري الذي أجريته مع الراحل حلمي سالم وبدأته بنص لي عن حلمي، فظن الكثيرون أنه لحلمي، فتوقفت عن ممارسة هذه اللعبة حتى لا أظلم الشعراء بـ"نصوصي الرديئة" على حد قول أحد الأصدقاء مؤخرا وهو يصف ما أكتب .
***
كانت قصيدة مطر في رأيي نموذجا للاكتمال الذي كنت أحلم به، وخاصة في الجوع والقمر، والنهر يلبس الأقنعة، وأنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت"
حتى قابلته قبيل رحيله بوقت قصير وتحاورنا حول الشعر والسياسة، وقلت له كيف ترى المشوار. فقال لي أنا راض عن سعيي في الشعر، لكن لو كان الأمر بيدي لشطبت نصف ما نشرت أو أقل قليلا.
صدمتني الإجابة، ولم اقتنع بما قاله تبريرا لها من أن بعض القصائد في الدواوين الأولى كان زاعقا
فسألته: هل يملك الشاعر أن يلغي قصائده؟
قال يمكنه ذلك نظريا لكنه سيخون قارئه ودارس شعره إذا فعل، فما نُشر صار ملكا للقارىء
هنا سقطت أمام عيني مرة أخرى فكرة الاكتمال. لكن لم يسقط خوفي من مقارنة نصوصي بما كتبه المطراوي، فقد وقفت قصيدته حائلا أمامي، فقد كنت أقارن دائما ما اكتبه بما خطت يداه وأرى البون شاسعا، فأصمت وأمزق أوراقي .
عشت هذه الحالة سنوات طويلة، كنت فيها خائنا للقصيدة، كما اتهمني صديقي الروائي الكبير يحيى مختار، لكن خوفي كان أكبر من سعيي في الشعر
بعد سنوات في الصحافة لم تثمر عنبا ولا زيتونا
وبعد رحيل عفيفي
تذكرت مقولاته عن الصحف الأجيرة
وتذكرت مقولته التي أعلقها أمامي دائما :
"أعوذ بالشعر من الجنون"
هنا لذت بالشعر
وعدت إلى كتفيه وصعدت عليهما، لأرى العالم أوسع مدىً وأرحب مما تحتمل الصحف، وأرى العالم قصيدة ناقصة ونقصها أروع ما فيها، فلم أعد أخاف من نصوصي الرديئة، وكتبت بطريقة غير طريقته، قصيدة غير قصيدته حتى يرضى، وربما يقرأني وهو في حال البرزخ.
****
كل عام وأنت أجمل من رأيت وقرأت
-----------------------------------
بقلم: محمد حربي
نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك